Review: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا رسالة في الطريق إلى ثقافتنا by محمود محمد شاكر
My rating: 5 of 5 stars

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا/ أبو فهر محمود محمد شاكر
مكتبة الخانجي – القاهرة – الطبعة الثانية– 1427 هـ –2006 م
الكتاب يقع في 182 صفحة
------------------------
• هذه هي المرة الرابعة التي أقرأ فيها هذا الكتاب، والتي يسّر الله أن تكون مع المجموعة القرائية الجميلة (إحياء الفكر)، والتي يسر الله أن تكون تحت إشراف الدكتور أحمد وجيه والشيخ علي العامري، أما المرة الأولى فكانت في عام 2015 وقت أهداني تلك النسخة أستاذي في التجويد، وكانت قراءة سريعة عابرة لا تليق أبدًا بمحتوى الكتاب، والثانية كانت العام الماضي في أبريل 2019، وكانت قراءة هادئة مستقرة جعلتني أقف أمامها في ذهول، وكأنني لم أقرأ هذا الكتاب من قبل، أما القراء الثالثة فهي قراءة متأنية، استهلكت فيها روحي الكثير من أنفاسها، قراءة أرجو ألا تكون الأخيرة، فليس هذا بكتاب يمكنك أن تقول معه: لقد أنهيت قراءة كتاب ( رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ) !
• محمود محمد شاكر، أبو فهر، وُلِد في 1 فبراير عام 1909، وتوفي في 7 أغسطس 1997 م.
• نشأ الشيخ محمود شاكر في بيئة متدينة، إذ كان أبوه كبيرا لعلماء الأسكندرية ثم وكيلا للجامع الأزهر. ولم يتلق إخوته تعليما مدنيا، أما هو وقد كان أصغر إخوته، فقد انصرف إلى التعليم المدني، فتلقى أولي مراحل تعليمه في مدرسة الوالدة أم عباس في القاهرة سنة 1916 ثم بعد ثورة 1919 إلى مدرسة القربية بدرب الجماميز وهناك تأثر كثيرا بدروس الإنجليزية لاهتمامهم بها ولكونها جديدة عليه. ولما كان يقضي أوقاتا كثيرة في الجامع الأزهر فقد سمع من الشعر وهو لا يدري ما الشعر!! ومن الجدير بالذكر أنه حفظ ديوان المتنبي كاملا في تلك الفترة.
• التكوين العلمي لمحمود شاكر منذ صغره كان تكوينًا مُبهرًا، وزاد عليه مسالة عزلته في شبابه، الفترة التي أغلق فيها الباب على نفسه عشر سنوات كاملة يقرأ فيها كل ما وقعت عليه يداه من كتب التراث العربي والإسلامي في شتّى الفروع المعرفيّة، وكان بتلك القراءة يقصد استخلاص أصول الثقافة العربية والإسلامية، مما أسهم في تكوين تلك الشخصية الفريدة.
• (محمود شاكر) هو حالة نادرة في عموم تكوينه العلمي والنفسي ونشأته المميّزة، ومواقفه الفريده مع معاصريه من الشيوخ والعلماء والأدباء، مصريين أو غير مصريين، يقول عنه محمود الطناحي: ( إن محمود شاكر قد رزق عقل الشافعي، وعبقرية الخليل، ولسان ابن حزم، وشجاعة ابن تيمية، وبهذه الأمور الأربعة مجتمعة حصَّل من المعارف والعلوم العربية ما لم يحصله أحد من أبناء جيله ).
• ألّف الأستاذ ( محمود شاكر ) هذا الكتاب في عام 1978، تقريبًا في نفس الوقت الذي ألّف فيه ( إدوارد سعيد) كتابه ( الاستشراق )، هذا الكتاب(رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) لم يكن منفصلًا وإنّما صدر كمقدمة لكتاب ( المتنبي )، مما يبدو غريبًا في البداية، ما الذي يجعل ( محمود شاكر) يُصدّر كتاب المتنبي بمثل هذه المُقدّمة؟
• الكتاب مختلف حتى في طريقة كتابته، فلم يُقسّم على هيئة أبواب وفصول كعادة غالب الكتب الأدبية، بل الكتاب يبدو وكأنّه رحلة في منهجية ما، أقسام لكل قسم منها عنوانها الذي يميز فكرته الرئيسة، يتحدّث ( محمود شاكر ) عن الحياة الأدبية، بمفهومه الذي يقصد به الدين والأدب واللغة وعلومها، ففي البداية تجد حديثه عن منهجه في التذوق، واستشعاره فساد الحياة الأدبية، ثُمّ بيان أسباب هذا الفساد، وكيف طبّق منهجه في مواجهته، ثم انتقل بحديثه إلى مراحل الصراع بين الإسلام والمسيحية، ثمّ حديثه عن الاستشراق، ثمّ الحملة الفرنسية، ثم النهضة بعدها، ثم الحديث عن دولة محمد علي وتأسيس الدولة المصرية الحديثة والقضاء على حركة محمد بن عبد الوهاب، ونظام التعليم بعد الحملة الفرنسية، وختامه بالحديث عن قضية التفريغ الثقافي التي تعرض لها جيل ( محمود شاكر).
مُلخّص الكتاب:
إنّ المدخل الوحيد لاستخلاص واستنباط أصول الثقافة العربية والإسلامية عند (محمود شاكر) هو منهج (التذوّق) والذي تحدّث عنه في مختلف كتاباته، وليس في كتابنا هذا فحسب، وقضية التذوق عند محمود شاكر هي قضيّة حياته المحوريّة، التي تجلّت في كلّ كتاباته، الأمر الذي تعدّى إذن القراءة المجرّدة للنصوص، أو حتى القراءة النقديّة التفصيلية، وإنّما تغلغلت حتّى بلغت العظم منها والنخاع، وهي درجة عظيمة من النفوذ في البيان العربي، درجة مكنته من بلوغ منزلة فريدة من الاجتهاد والتغلغل في اللسان العربيب فاستطاع أن يقرأ التراث العربي والإسلامي ويستنبط أصوله، بل استطاع (تذوّق) طعم النص حتّى استخلص تلك الأصول والمنهجية منه، ولم يُجر (محمود شاكر) تلك المنهجيّة على الشعر فقط، وإنّما على النصوص المنثورة أيضًا، فكان منهجًا عامًا له على كلّ ما قرأ.
أولًا: منهج التذوق الأدبي
اعتكف (محمود شاكر) عشر سنوات من فترة شبابه بعيدًا عن مُخالطة الحياة الأدبية
وخلال هذه العزلة العلمية التي استمرت حتى سنة 1936م؛ تبيّن له منهج التذوق ومارسه على كل ما وقع تحت يده من الكتب التراثية، فبدأ ( محمود شاكر ) باستشعار مدى فساد الحياة الأدبية التي كان قد انغمس فيها. يقول في مقدمة هذه الرسالة : " أحسست أنا والجيل الذي أنا منه، وهو جيل المدارس المصرية، قد تمّ تفريغنا تفريغًا يكاد يكون كاملًا من ماضينا كلّه، من علومه وآدابه وفنونه ".
وما قام به ( محمود شاكر ) هو أنّه عمد إلى قراءة كل ما وقع تحت يديه من الشعر العربي حتى اكتسب تذوقا فريدًا للغة الشعر، ثم قام بقراءة جميع ما استطاع ومما وقع تحت يديه من كتب السلف من تفسير للقرآن وعلومه، إلى دواوين السنة وشروحها وما تفرع منها من كتب المصطلح والرجال والجرح والتعديل إلى كتب الفقه وأصوله، وكتب الملل والنحل ثم كتب الأدب والبلاغة والنحو والصرف، حتى تراءى له منهجه الفريد؛ ( منهج التذوق )، ويُقصد به تذوق الكلام العربي وما يقصد به وما وراءه من معان، وهذا المنهج سبقه إليه علماء أجلّاء أمثال ( عبد القاهر الجرجاني ) و ( سيبويه ) وغيرهما.
إنّ المدخل الوحيد لاستخلاص واستنباط أصول الثقافة العربية والإسلامية عند محمود شاكر هو منهج (التذوّق) والذي تحدّث عنه في مختلف كتاباته، وهو المنهج الذي اعتمده في تحصيل العلوم والانتفاع بالمعارف والثقافات المختلفة، وهو منهج اتّبعه العلماء في السابق، ويرى الكاتب أنّه المنهج الأنسب في التدوين والدراسة، كما أنّ هذا المنهج يحتاج في تحقِّقه إلى عناية خاصة باللغة والثقافة كي يضمن الإنسان السير السليم في منهج التذوّق وتحقيق غاية النفع به.
ثانيًا الصراع بين الإسلام والنصرانية:
إنّ الصراع بين الإسلام والنصرانية هو صراع قديم، دبّ في أوصال الأمم والأمصار، ويظهر عبر التاريخ كراهية الشعوب غير المسلمة للإسلام، وبخاصة في قلوب الأوربيين، لكنّ استفاد الأروبيون من تجاربهم السابقة في الصراع مع العالم الإسلامي، ويتّضح ذلك في أربعَ مراحل من الصراع بين الإسلام وبين المسيحية الشمالية.
المرحلةُ الأولى: كان الصراعُ لهزيمة المسيحية في أرض الشام ودخولِ أهلها في الإسلام، وبناءً عليه أمَّلت اختراق دارِ الإسلامِ لتَسْترِدَّ ما ضاع، وكان دافعها في ذلك بغضاء مستقرة في النفوس، وظلَّ الصراع قائماً لم يفتر، أكثر من أربعة قرونٍ.
المرحلة الثانية: هو صراع الغضب المتفجِّر المتدفّق من قلب أوربا، المشحون أيضًا ببغضاء جاهلةٍ عنيفة سفَّاحةٍ للدماء، وكان أوّل مَا سفَحَت هي دماءَ أهل دينها من رعايا البيزنطية، والتي جاءت تريدُ هى الأخْرَى، اختراقَ بلاد الإسلام، وذلك في عهد الحروب الصليبية التي بَقىت في الشام قَرنين من الزمان، ثم ارتدت مدحورة إلى أصولها في قلب أوربا.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة صِراع الغضب المتولِّد من هزيمةُ الكتائب الصليبيَّة، ومن وراءه كراهية عنيفة يُلجّمها اليأس من اختراق بلاد الإسلام مرة ثالثة بالسلاح وبالحرب، فارتدعَتْ وأشغلت نفسها بإصلاح الخَلَل في الحياة المسيحية، وذلك بالاعتماد الكامل على علوم المسلمين، وذلك كي تستطيع إخراج المسيحيّة من مأساتها الكبرى، وظلت على ذلك قرناً ونصف قرنٍ في القرون الوسطى.
المرحلة الرابعة: صراع الغضب المتفجّر إثر فتح القسطنطينية والذي يزداد اشتعالًا بسبب ميراث البغضَاء ِوالحِقْد الغائر في العِظام على المسلمين الأتراك، والذين كانوا الوحش المفزع المخترق لأوربا، وكل هذا أدَّى إلى يَقَظةٍ شاملة في أنحاء أوربا قامت على الإصرارِ والدأب، واهتمت بالتركيز على تحصيل العلم وعلى إصلاح الخلَل في الحياة المسيحية.

ثالثًا: أثر الاستشراق على فساد الحياة الأدبية:
ولكي يتمكن الأوروبيون من تحصيل هذه العلوم تكوّنت لديهم ( طبقة المستشرقين )، وكانت مرحلة من أهم مراحل إفساد الحياة الأدبية وهي مرحلة (الاستشراق والمستشرقين)، وأشار (محمود شاكر) إلى فساد الحياة الأدبية، والذي قصد به مناهج المستشرقين وسيطرتهم على التعليم إمّا بسبب المستشرقين الذين درّسوا في الجامعات المصرية، أو بسبب تأثر المصريين الذين سافروا في البعثات بمناهج هؤلاء المستشرقين في بلادهم.
إنّ الغرض الأساسي الذي جاء به الاستشراق كان لأجل الأوروبيين وليس لأجل الشعوب العربية المُسلمة، ومع الحروب الصليبية ظهر العديد من الفلاسفة والمستشرقين الأوربيين الذين اجتهدوا في التعلّم والتعليم في ليرفعوا عن أنفسهم وعن بلادهم الجهل، فنشأ بذلك حاجز منع الأوروبيين من الانبهار بحضارة الإسلام والتي كانت في أشد مراحل ازدهارها، فقاموا محاولة رسم التراث العربي الإسلامي بصورة تُناسب القاريء الأوربي حتى لا ينبهر القاريء الأوربي كما انبهر أسلافه.
يقول ( محمود شاكر ) عنهم: " أهمُّ وأعظَمُ طبقةٍ تمخَّضتَ عنْها اليَقَظةُ الأوربية، لأنهم جُنْدُ المسيحية الشمالية، الذين وَهَبُوا أنفُسهم للجهادِ الأكبر، ورضُوا لأنفُسهم أن يظّلوا مَغْمورين في حياةٍ بدأت تَموج بالحركة والغِنَى والصيتِ الذائع، وحَبسُوا أنفسهم بين الجدْران المختفية وراءَ أكدْاس من الكتُب، مكتوبةٍ بلسانٍ غيرِ لسان أمَمهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كُلّ اللَّهيب المُمِضّ الذى في قلب أوربَّة، والذى أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام ".
ما فعله المستشرقون لا علاقة له بالمنهج الذي تنتمي إليه العلوم والثقافات العربية؛ وذلك بسبب الفروق الشاسعة في اللغة والثقافة والدين، وهي الأدوات التي يتم بناء الإنساء في مرحلة ما قبل المنهج، ولا يخفى أيضًا أن المستشرقين في أغلبهم يتّبعون الهوى ولا يتحرّون الحق في منهجهم. وإنتاجهم إنما كان لأجل خدمة مصالح أوطانهم، وحتى لا ينبهر القوم بالثقافة العربية والإسلامية فيكون ذلك سببًا في دخولهم إلى دين الإسلام.
رابعًا: الحملة الفرنسية وإبادة نهضة الإسلام:
هناك خمسة علماء أيقظوا الجماهير من غفلتها، وهم عبد القادر بن عمر البغدادي صاحب خزانة الأدب، ومحمد بن عبد الوهاب، وحسن بن إبراهيم الجبرتي (الكبير) العقيلي، ومحمد بن عبد الرزاق الحسيني المرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس، ومحمد بن علي الخولاني الشوكاني الزيدي.
وخشيت أوروبا أن تقوم نهضة في قلب العالم الإسلامي كما قامت نهضتهم، فعملت على محاصرتهم ووأد يقظتهم، فأسرعت إنجلترا إلى سواحل الجزيرة العربية لإخماد صحوة ابن عبد الوهاب، ثمّ كان دور الاستشراق الفرنسي في إخماد يقظة الديار المصرية، وذلك عن طريق ( نابليون ) والذي هوى على مهد اليقظة ووضع خطة محكمة تتضمن إقناع المشايخ أن هدف الحملة الفرنسية هو محاربة المماليك وظلمهم، وإثارة المسيحيين ضد المسلمين، وتدجين العلماء، وتفقير الشعب، وسرقة الثروة الفكرية والثقافية لبلاد المسلمين.
قبل مجيء الحملة الفرنسية كان المستشرقون قد توغلوا في داخل بلاد المسلمين، بغرض التعرف على كل خصائصها ومعالمها، وذلك في غفلة من أبنائها في عهد المماليك، وكان للمستشرقين دورًا كبيرًا قي تنبيه قادتهم إلى ضرورة غزو مصر. ثم بدأوا يقنعون الشعب المصري بأن قدوم الحملة سبّبه تخليص المصريين من بطش وظلم المماليك، ووضع أمور البلاد في أيدي المشايخ والعلماء.
ثمّ جاء نابليون في حملته الشهيرة، وألقى منشوره على المصريين، الذي كتبه المستشرقان ( فانتور ) و ( مارسل )، وقضى على المماليك، وهو ما دفع بعض المشايخ لقبول دعوته للعمل في ( الديوان ) خوفاً على مصير بلادهم التي أصبحت بلا حاكم، ثمّ أرسل ( نابليون ) رسالته إلى ( كليبر ) وأمره بإجلاء الحملة وحمل الآلاف من المصريين معه، ثمّ اختار المشايخ بعد ذلك؛ وعلى رأسهم نقيب الأشراف ( عمر مكرم )إسناد ولاية مصر إلى ( محمد علي ).
خامسًا: محمد علي باشا والاستشراق:
كانت قوى الاستعمار تراقب ( محمد علي ) باشا منذ صار واليًا على مصر، وعرفت ما يُحب وكيف يمكنها أن تقوده وتستغلّه، فما إن تولى حتى أحاطت به قناصل الدول المسيحية الاستعمارية ثمّ بدأت عملية السيطرة عليه، فكان أول ما كان أن أوغروا صدره على المشايخ فنفى الشيخ (عمر مكرم) رحمه الله إلى دمياط بعد أن أوقع بينه وبين المشايخ. وعد المستشرقون ( محمد علي ) بأن يساعدوه على استقرار حكمه مقابل تنفيذ أهدافهم، وطلبوا منه أن يذهب لقتال الوهابيين فلباهم في الحال، وكان قد رفض تنفيذ الطلب نفسه عندما أمرته به الدولة العثمانية. ثمّ ظهرت فكرة البعثات العلمية من جانب عضو المجمع العلمي الفرنسي ( مسيو جومار) ، والتي رأى ( محمود شاكر ) أنها كانت تجسيدًا لفكرة نابليون في الغزو العلمي والثقافي لبلاد المسلمين.
خرجت أولى البعثات إلى فرنسا عام 1826، وتكونت من 44 تلميذاً، وخرج معهم الإمام ( رفاعة الطهطاوي ) ليؤمهم في الصلوات، والذي كان ذا تربية دينية أزهرية وإماماً واعظاً، فتعلم الفرنسية ودرس العلوم والآداب هناك، وسرعان ما تم استغلاله بواسطة المستشرق المشهور ( سلفستر دي ساسي )، وحينما عاد إلى مصر أوعز إلى محمد علي بفكرة إنشاء ( مدرسة الألسن )، التي هي فكرة الاستشراق في الأصل، كما يقول ( محمود شاكر ). ولأنه لم يكن هناك من المصريين من هو أهلاً لتدريس مناهجهها، فتم استقدام المعلمين الأجانب والمستشرقون لتدريسها، وتولوا تعليم وتثقيف 150 تلميذاً.
وبعد عهد ( محمد علي ) انقسم التعليم إلى قسمين، المدراس العامة، والمعاهد الأزهرية، وبدأت الفجوة بينهما تتسع، ومناهجهما تختلف، ثمّ جاء بعد ذلك الاحتلال الإنجليزي، وبدأ الاستشراق الإنجليزي يدمر كل ما أنشأه الفرنسيون، وسعى للتحكم في التعليم المصري، لتحقيق ذات الهدف الاستشراقي؛ وهو تفريغ المصريين المسلمين من ثقافتهم العربية الإسلامية، عن طريق مناهج التاريخ واللغات والعلوم الخاصة بالغُزاة.
• يُجيب الكتاب بشكل عام عن تساؤل طرحه (محمود شاكر) ضمنيًا، فجاء الكتاب كإجابة عن هذا التساؤل وهو؛ كيف نشأ الخلاف بين محمود شاكر وبين المناهج الأدبية (الفاسدة) في مصر؟
• ولك أن تتساءل عن مقصد (محمود شاكر) بفساد الحياة الأدبية، والذي بيّن في كتابه أنّه يقصد به مناهج المستشرقين وسيطرتهم على التعليم إمّا بسبب المستشرقين الذين درّسوا في الجامعات المصرية، أو بسبب تأثر المصريين الذين سافروا في البعثات بمناهج هؤلاء المستشرقين في بلادهم.
• يُسهب (محمود شاكر) في الحديث عن الاستشراق، والنمط الاستشراقي في تناول التراث وإعادة تفسيره تفسيرًا حداثيًا، وهو أمر بالرغم من أن الكثير الآن يتحدّثون فيه، إلّا أن ( محمود شاكر ) قد تنبّه إليه في وقت مبكّر جدًا، وكأن رسالة محمود شاكر في أصلها هي رسالة تنبيه عن عجز معاصريه عن الوصول إلى مناهج التراث الحقيقية واستنباط قواعدها دون التاثّر بمناهج المستشرقين في النظر والاستنباط.
• يرى (محمود شاكر) أنّ كل أعمال المستشرقين لا يحق لها أن توصف بالعلمية، ويرى أن هدف الاستشراق الأساسي هو رسم التراث العربي الإسلامي بصورة تُناسب القاريء الأوربي، حتى لا ينبهر القاريء الأوربي كما انبهر أسلافه.
• كان (محمود شاكر) محملًا بالغيظ الشديد تجاه الاستشراق، وذلك نتيجة ما رآه بنفسه من فساد الحياة الأدبية كما جاء في كتابه، إنّه من المأساة حقًا أن تقرأ تُراثك العربي الإسلامي بعين المستشرق !
• يٌعلّمنا (محمود شاكر) المنهجية الحقيقية الصالحة للتعامل مع كتب التراث، منهجية الفهم واستنباط الأصول وإدراك كيف كان يُفكّر هؤلاء، وكيف أخرجوا لنا كتب التُراث وكنوزه.
• التُراث العربي والإسلامي، شديد التنوّع، وهي فكرة أدركها كل عالم ومفكّر مُبدع في ميدانه، فلم يحصر تفكيره في الموافقين له وإنّما وسّع مجال النظر، وحالنا معهم ينبغي أن يكون حال المدقق للاستنباط واستخراج طرائق النظر.
-------------------------------
• قضية (التذوّق) عند محمود شاكر:
• إنّ المدخل الوحيد لاستخلاص واستنباط أصول الثقافة العربية والإسلامية عند محمود شاكر هو منهج (التذوّق) والذي تحدّث عنه في مختلف كتاباته، وليس في كتابنا هذا فحسب، يقول (وجدان العلي) في كتابه (ظلّ النديم):
" أمّا التذوق الذي بنى عليه محمود شاكر دراسته في الأدب، وكان المُعلّم الرئيس الذي دندن عليه كثيرًا، وذكره في غير ما كتاب=فلم يكن ذلك التذوق الساذج الدائر على ألسنة الناس، من الاستحسان والتقبيح اللذين لا يستندان إلى دليل، ولا يرتكزان على أساس علمي منضبط، وهو ما يسميه شاكر ((التذوق الساذج))، ولكنّه التذوق الذي نبع من تكرار النظر في المادة الأدبية، وترديد الكلام وترجيعه، والاستقراء التام، وجمع النظير إلى النظير، والاستنباط القائم على الدليل، واليقظة في التحليل، والإلمام بالظروف التي أحاطت موضوع الدراسة، وتحليلها.. إلخ.. ".
• قضية التذوق عند محمود شاكر هي قضيّة حياته المحوريّة، التي تجلّت في كلّ كتاباته، الأمر الذي تعدّى إذن القراءة المجرّدة للنصوص، أو حتى القراءة النقديّة التفصيلية، وإنّما تغلغلت حتّى بلغت العظم منها والنخاع، وهي درجة عظيمة من النفوذ في البيان العربي، درجة مكنته من بلوغ منزلة فريدة من الاجتهاد والتغلغل في اللسان العربيب فاستطاع أن يقرأ التراث العربي والإسلامي ويستنبط أصوله، بل استطاع (تذوّق) طعم النص حتّى استخلص تلك الأصول والمنهجية منه.
• وكما ذكر (محمود شاكر) نفسه أنّه لم يُجر تلك المنهجيّة على الشعر فقط، وإنّما على النصوص المنثورة أيضًا، فكان منهجًا عامًا له على كلّ ما قرأ.
---------------------------
• أسلوب الكاتب:
• من المُلاحظ في كتابات ( محمود شاكر ) أنّه رجل صاحب قضيّة، يحمل زادًا عظيمًا من النظر العميق المستفيض في التراث العربي، يقول الأستاذ (وجدان العلي) في كتابه (ظلّ النديم):
" وإذا ما أردنا كشف اللثام عن منهج محمود شاكر في الأدب، وتتبّعنا ما سطره في مقالاته وكتبه وتحقيقاته، رأينا معالم لا يخطئها الناظر في كتبه، كانت هي الأسس التي بنى عليها دراسته في الأدب، ومنهجه فيه، مما جعله متفردًا صاحب مدرسة قائمة بأصولها يتبعه فيها من يتبعه من تلامذته ومريديه والقاصدي قصده، وهذه الأسس لم ينصّ عليها شيخنا، وإنّما جعلها مبثوثة في كتبه ومقالاته وتحقيقاته، ولقد استبان لي بعد النظر في تراث شيخنا ومنهجه، أن هذه الأسس هي:
1. التذوق، وهذا هو أصل الأصول في منهج شاكر.
2. المنطق العقلي.
3. اللغة.
4. التاريخ السوي.
وهذه الأسس الثلاثة الأخيرة كلها مندرجة تحت الإطار العام الذي جعله شاكر محور منهجه في التعامل مع الأدب، وهو ((التذوق)) ".
• ينصح الدكتور (أحمد وجيه) المدرس بقسم الفلسفة في كلية دار العلوم، وهذا في نقاش دار حول هذا الكتاب؛ بأن الفائدة الأعظم التي يمكنك تتحصّل عليها من هذا الكتاب، هي فهم منهجية محمود شاكر والاستفادة منها ومن فكر صاحبها، كما ينبغي لنا إذا قرأنا كتب كبار العُلماء والمفكرين أمثل ابن تيمية وغيره، فأنت عندما تقرأ لأحدهم فإنّما تقرأ لتعرف كيف يفكّر، وتعرف منهجيته في الصواب، بل ومنهجيته في الخطأ أيضًا.
وأشار الدكتور (أحمد وجيه) بإشارة لطيفة إلى أهمية عقد المقارنة بين ما ذكره (محمود شاكر) في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، و (إدوارد سعيد) في كتابه (الاستشراق)، حيث اتّفق كلاهما في نقد الاستشراق وفلسفته.
• وعن أهمية كتاب ( رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ) يكفي أن أشير لقول الدكتور الدكتور سعد المصلوح الأستاذ بكلية الآداب بجامعة الكويت في مجلة العربي سنة 1988م، عندما كتب مقالًا بعنوان (قراءة نقدية في كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) قال فيها: " إن تعجب فعجبٌ أن يحول الحول أو يزيد على هذه الرسالة الجليلة الخطر منذ ظهورها لأوَّل مرّة دون أن تلقى ما هي حقيقة به من العناية الواجبة على كلّ مهتمّ بأمر الثقافة العربية، مع توافر الدواعي للحوار حولها، ذلك أنها رسالة تستمدّ أهميتها وخطر من جهات عدّة، من مؤلفها، ومن موضوعها، ومن غايتها ".
وختامًا :
إنّ ثقافة كل أمة يكون منها بمثابة الروح للجسد، فهي سرُّ حياتها، وتتميّز به من بين أقرانها، ورأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام، والذي هو فطرة الإنسان التي فطره الله عليها. ولقد حاول ( محمود
-------------------------------------
• اقتباسات من الكتاب:
" ففي نظم كل كلام وفي ألفاظه، ولابُدَّ، أثر ظاهر أو وسم خفي من نفس قائله وما تنطوي عليه من دفين العواطف والنوازع والأهواء من خير وشرٍّ أو صدق وكذب=ومن عقل قائله، وما يكمن فيه من جنين الفكر، ( أي مستوره )، من نظرٍ دقيق، ومعانٍ جليّةٍ أو خفيّة، وبراعة صادقة، ومهارة مموهة، ومقاصد مَرْضيّةٍ أو مُستَكرهة ".
" رأس الثقافة هو ((الدين)) أو ما كان في معنى ((الدين)) ".
" وهذه العناية بالأصل الأخلاقي هي التي حفظت على الثقافة الإسلامية تماسكها وترابطها مدّة أربعة عشر قرنًا، مع كل ما مرَّ عليها من القوارع والنكبات ووقائع الدهر على طول هذا المدى، ومع كلّ ما انتابها من الضّعف، ومع كل ما اعتورها أو دخل عليها من التقصير والخلل. وبقاء هذا التماسك على طول القرون، هو وحده إحدى عجائب الحضارات والثقافات التي عرفها البشر ".
" ولا يأتيك الجوابُ صريحًا بيِّنًا أمينًا، إلاّ بَعْدَ أن أقُص عليك قِصَّةَ تاريخ طويلٍ سوف أختصره لك اختصارًا مُوجَزًا أشدَّ الِإيجاز ما استطعتُ، وذلكَ لأن هذا الفَسادَ لم يدخل على ثقافتنا دخولاً يوشِك أنْ يَطْمِسَ مَعَالمها ويطفيء أنوارهَا، إلاّ بعد التصادمِ الصامتِ المخيفِ الذى حَدَث بيننا وبين الثقافة الأوربيّة الحاضرةِ، وإذا نحن أغفلنا هذا التاريخ ولم نتبينه تبيُّنًا واضحًا، فكأننا أغفلنا القضية كلَّهَا، وأسقطناهَا إسقَاطًا من عقولنا ".
" التجديد حركة دائبة في داخل ثقافة متكاملة ، يتولاها الذين يتحركون في داخلها كاملة حركة دائبة، وعمادها الخبرة و التذوق و الإحساس المرهف بالخطر عند الإقدام على القطع و الوصل ".
" فالأديب منّا مصوّر بقلم غيره، والفيلسوف منّا مفكّر بعقل سواه، والمؤرّخ منّا ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنّان منّا نابض قلبه بنبض أجنبيّ عن تراث فنّه.
وأمّا الثرثرة والاستخفاف، فحدّث ولا حرج، فالصبي الكبير يهزأ مزهوا بالخليل وسيبويه وفلان وفلان، ولا بعث أحدهم من مرقده، ثم نظر إليه نظرة دون أن يتكلّم، لألجمه العرق، ولصار مضغة لا تتلجلج بين فكّيه، من الهيبة وحده، علمه الذي يستخف به ويهزأ ".

View all my reviews

تعليقات

المشاركات الشائعة